العدالة دين الدولة
نشرت صحيفة الثورة في يومياتها مقالا للقاضي عبدالعزيز البغدادي عضو منتدى محامو العدالة بعنوان (العدالة دين الدولة)
واوضح المقال ان موضوع مدنية الدولة كان مثار نقاش خلال ما عرف بمؤتمر الحوار الوطني وسيظل كذلك في كل محطات محاولة وضع أسس لبناء دولة يمنية كريمة تعبر عن طموحات الشعب وتحقق الوحدة الوطنية كمنطلق لأي وحدة أشمل !
ومن يطرح مدنية الدولة في الإسلام ويؤكد عليها إنما هو التذكير بأهمية إغلاق الباب أمام كل من يستغل الدين أو يوظفه لمصالح دنيوية شخصية أو يطوعه لخدمة أهداف سياسية لا تقيم وزناً للالتزام بمبدأ العدالة كقيمة دينية وقانونية وأخلاقية
ولا يوجد انفصام بين هذه الثلاثية المعبرة في كل مجتمع عما يؤمن به أبنائه من قيم ، ومدنية الدولة تعني كذلك أن السلطة العامة وحدها من يحق لها احتكار القوة خدمة للعدالة والوقوف مع المظلومين والمستضعفين ضد الظالمين وأن تتحول جميع سلطات الدولة إلى مؤسسة للرحمة لا أن تكون سبعاً ضاريا يصبح فيها المظلومون والمستضعفون غنيمة للمتشاركين من الطغاة والمتجبرين ، وعدم عسكرة الدولة أو جعلها دولة بوليسية .
ومقولة (العدالة دين الدولة) عنوان هذه اليوميات تنسب للإمام علي ابن ابي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه
وهي مقولة تؤكد على أهمية مدنية الدولة في أي توجه يدعي أصحابه الإسلام لأن أغلب نصوص القرآن حول العدالة تأتي في سياق مفهومها المطلق وما يثبت أو ينفي وجود ها هو تطبيق مبادئها على عموم ساكني الدولة أي دولة بغض النظر عن دينه أو عرقه أو جنسه أو جنسيته أو انتمائه الديني أو السياسي .
وعلى المحبين والمبغضين ، الأصدقاء والأعداء ، وأبرز الآيات القرآنية الدالة على هذا المفهوم الآية رقم (8) من سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا كونواقوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنَّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون) ،
والعدالة هنا وردت كمفهوم عام لا يقتصر على العدالة القضائية وإنما يشمل كلما تمارسه سلطات الدولة بكل هياكلها وتفرعاتها وتخصصاتها وإن كان المعنى ينصرف غالباً على أعمال القضاء وما يتصل به من أنشطة المنظومة العدلية ، كما يضم كل علاقات وتصرفات الانسان مع غيره ، وهو مفهوم يوازي في الدولة الحديثة مبدأ سيادة القانون بعناصره المعروفة : العمومية ، التجريد ، والالزام – يستوي أن يكون طرف العلاقة رئيس الجمهورية ، أو رئيس الوزراء ، أو الوزراء و كافة الموظفين في مختلف الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة أياً كانت درجاتهم .
وكل الأجهزة الرقابية التي ينبغي أن تعتمد في رقابتها على معيار مدى احترام الموظف لهذا المبدأ وليس على المزاج الشخصي أو العلاقة الشخصية أو العائلية أو الحزبية أو القبلية أو أي نوع من الانتماءات .
بل حتى المؤسسات الخاصة يشملها مفهوم العدالة بمعناها الشامل من التزام الأمانة فيما تقوم به من أعمال لأن الجميع معني باحترام مبدأ سيادة القانون .
والناظم لكل ذلك في الدولة المدنية لا يستقيم إلا في ظل علاقة مدنية تخضع لمبدأ الثواب والعقاب ، ولا يمس ذلك بمسؤولية الانسان الدينية .
ومقولة (العدالة دين الدولة) تزيل الالتباس الذي تحدث عنه المرحوم د. أحمد عبدالرحمن شرف الدين عن الدولة المدنية بقوله : أن الدولة لا دين لها ، وفي شرحه لهذه المسألة قال : لو قلت دين الدولة الإسلام فيلزم أن تبين على أي مذهب .
فمن المستحيل اتفاق الناس على مذهب بعينه أو أن يفرض صاحب مذهب معين مذهبه على بقية المذاهب وإلا عد ذلك نواة لاستمرار دوامة العنف
ومما يؤكد ذلك أن بعض المنتمين الى حزب الاخوان المسلمين الذين انضوى أغلبهم خلال الاعداد للوحدة السياسية في 1990 ضمن حزب الإصلاح واحتلوا حيزاً معروفاً في الدولة استغلوه في تكفير مخالفيهم من المذاهب والأحزاب الأخرى وعملوا ما عملوا في الوقوف ضد المادة (3) من الدستور وأثاروا الخلاف المعروف حول هل تنص على اعتبار الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس أو الوحيد للتشريع .
وهو خلاف لا يصل لنتيجة لأن في الشريعة مسائل خلافية بين المذاهب لا يستطيع أحد إنكارها لهذا فإن الأصوب لإنهاء الخلاف هو أن يكون نص المادة (العدالة دين الدولة والإسلام مصدر رئيس في التشريع)
وتحت هذا العنوان يترك المجال لأعضاء مجلس النواب لإعمال عقولهم مهما اختلفت الآراء حول ما يجوز ومالا يجوز فيه إعمال العقل بين من يرى أن العقل مناط التكليف مطلقاً حسب القاعدة الفقهية الأصولية ومن يرى حصر إعمال العقل في نطاق ما ليس فيه نص صريح ، إتباعاً لقاعدة (لا اجتهاد مع وجود النص)
وهي قاعدة يحتاج تطبيقها إلى عقل راجح لأنها مسألة خلافية أيضاً وتطبيق أي من الرأيين بحاجة إلى وعي ديني ومجتمعي لا يصل معه إلى المجلس التشريعي (مجلس النواب) إلا من هو أهل للموقع عقلاً وكفاءة
وأن يكون من بينهم القدر الكافي ممن تتوفر فيهم شروط المجتهد وهذه مسألة يطول بحثها ، ويسهل تنظيمها إن وجدت النية والإرادة لاعتبار العدالة محور كل تصرفاتنا.
ولا أعتقد بوجود خلاف حول كون العدالة قيمة إنسانية تجمع كل المذاهب بل جميع الأديان والأفكار والمبادئ .
لأنس ابن مالك: (همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الرعاية).