خلال الشهرين الماضيين، بدت الأوضاع العالمية وكأنها تميل نحو التهدئة، من دون وجود بوادر لحل الأزمات الكبرى، إلا أن حالة من الترقب الحذر كانت سائدة في انتظار ما سيحمله الشتاء من أزمات في مجالي الغذاء والطاقة، وتوقع كثيرون أنها محاولة للتخفيف من حدة الأزمات المقبلة من خلال المحافظة على الأمور على حالها.
الاتفاق النووي مع إيران بدا قاب قوسين أو أدنى من التوقيع، وسط ترحيب عالمي (باستثناء الكيان الصهيوني) بالأجواء الإيجابية، وبالدور الإيراني المرتقب في تخفيف حدة أزمة الطاقة المتوقعة في الشتاء المقبل.
أخبار العملية الروسية في أوكرانيا تراجعت عن صدارة الأخبار، وحلّت مكانها الأخبار المرتبطة بتصدير المنتجات الزراعية الأوكرانية، والتفاؤل بتخفيف حدة أزمة الغذاء العالمية التي تفاقمت منذ بدء تلك العملية.
الوسيط الأميركي في ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين، عاد إلى المنطقة، وقام بعدة جولات رشحت عنها أجواء إيجابية عن قرب التوصل إلى اتفاق، وانتزاع فتيل الأزمة التي يمكن أن تندلع في حال نفذ حزب الله تهديداته للعدو.
الهدنة في اليمن صامدة، الأوضاع على الجبهات السورية مستقرة. بدا الأمر أن العالم مقبل على شتاء بارد.
فجأة، انفجرت جميع الأزمات، في جميع الاتجاهات!
تراجع أميركي عن التسويات المتعلقة بالاتفاق النووي، وبيان أوروبي يحمّل إيران المسؤولية، ويصعّد المواجهة بين أطراف الاتفاق. عملية عسكرية أوكرانية، يائسة، على محور إقليم خيرسون، ما قد يدفع روسيا إلى إلغاء اتفاق تصدير الحبوب، و التراجع عن الوقف الاختياري لقصف أهداف داخل العاصمة الأوكرانية كييف، ما يعيد الأزمة إلى المربع الأول.
تعديلات على قرار بقاء اليونيفيل في لبنان، تصل إلى حدّ فرض الشروط الإسرائيلية-الأميركية بالقوة في لبنان، وهو أمر يذكر بالورقة الأميركية – الفرنسية في إبان حرب 2006، والتي أسقطها حزب الله في ساحة المعركة.
هذا القرار سيدفع العلاقة بين المقاومة واليونيفيل إلى نقطة الأزمة، الأمر الذي تسعى الولايات المتحدة إلى حدوثه لتبرير تدخلها المباشر في وضع الصيغة النهائية لاتفاق ترسيم الحدود، ولو اضطرت مع الكيان الصهيوني إلى استعمال القوة.
السعودية تمنع وصول أي باخرة وقود إلى الموانئ اليمنية، ما ينذر بأزمة جديدة، خاصة مع تصاعد خروقات اتفاق وقف إطلاق النار. في سوريا، تصاعدت الاعتداءات الإسرائيلية على الأهداف المدنية والعسكرية، وآخرها العدوان على مطار حلب الدولي، وقصف مواقع سورية وروسية في إدلب أدت إلى استشهاد جنود سوريين وروس. الولايات المتحدة دعت حلفاءها من قطر والأردن والسعودية ومصر إلى اجتماع في جنيف كان هدفه العمل المشترك لمنع عودة سوريا إلى مؤسسة الجامعة العربية، حتى لو كان ذلك على حساب إلغاء القمة أو نقل مكان عقدها.
لماذا تلجأ الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى التصعيد؟ هل هناك تغيير حقيقي في موازين القوى، أم أن “الناتو” وحلفاءه وجدوا أن الهجوم خير وسيلة للدفاع؟
بالتأكيد، لم يتغير ميزان القوى، وإذا كان ليتغير فهو لمصلحة القوى المناهضة لمشاريع “الناتو”، فأوروبا تصرخ بأعلى صوتها معبّرة عن تفاقم أزمتها الاقتصادية المتمثلة في ارتفاع نسب التضخم، وبشكل خاص، ارتفاع أسعار الوقود، والسياسية إذ تجد نفسها مضطرة إلى السير في ركب السياسة الأميركية التي تعاكس مصالحها، والأزمة الاجتماعية المتمثلة في تصاعد نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة، والذي ترجم بفوز اليمين المتطرف في الانتخابات في السويد، وتقدم حزب “قوميي السويد” اليميني الفاشي ليصبح ثاني أحزاب البلاد قوة، والدلائل التي تشير إلى فوز اليمين المتطرف الإيطالي بزعامة حزب الفاشيين الجدد “أخوة إيطاليا” بأغلبية مريحة في الانتخابات البرلمانية القادمة.
تعرف أوروبا ما يحدث عندما تدفع الأزمات بالفاشيين إلى مقاعد الحكم، لقد جربت ذلك بعد الكساد الكبير في الثلث الأول من القرن الماضي، وجاءت بالنازيين بزعامة هتلر، والفاشيين بزعامة موسوليني، ليخوضا معاً حرباً عالمية كلفت البشرية أكثر من 60 مليون ضحية. الحرب قائمة ويحتاج الأمر إلى خطأ واحد صغير لتحل الكارثة.
هل قررت أوروبا الانتحار، أم أن الدوائر الرأسمالية تدرك أن أملها الوحيد في البقاء يكمن في مفاقمة الأزمات، حتى لو كان ذلك على حساب شعوب العالم، بمن فيها شعوب الدول الرأسمالية نفسها؟
نعلم تماماً، أن الرادع الأخلاقي أو الإنساني يغيب تماماً عن قاموس الرأسمالية السياسي. كل ما يحدث في العالم يسير بعكس مصالحها. إيران تتقدم في علاقاتها بروسيا والصين، ورفع الحصار سيدعم موقفها الإقليمي، خاصة في الملف السوري، ولم تدفعها مفاوضات الاتفاق النووي إلى تقديم التنازلات السياسية والاقتصادية التي طمحت الدوائر الرأسمالية بالحصول عليها.
روسيا ماضية نحو الانتصار، مهما كان الثمن، فهي لا تملك خياراً آخر. بعكس ذلك، لن يقتصر الأمر على إضعاف موقع الاتحاد الروسي في السياسة العالمية، بل قد يصل إلى تفكك هذا الاتحاد. الأهم أن العقوبات لم تمس الاقتصاد الروسي بشكل عميق، ولم تدفع نسب التضخم إلى الارتفاع، على عكس ما يحدث في العالم الغربي، والأهم أن الأزمة أعادت إحياء المشاعر القومية الروسية، وقضت على أي احتمال لرحيل معسكر بوتين في المدى المنظور.
حزب الله يقف في موقع مريح، مفاتيح اللعبة اللبنانية، كاملة، في يده، وهو صاحب الكلمة الأخيرة في كل ما يحدث، وما يمكن أن يحدث. ولا يشعر الحزب أنه بحاجة إلى تقديم أي تنازلات داخلية أو خارجية في ظل تقدم المحور الذي ينتمي إليه.
في المحور نفسه، ورغم الضغوط الاقتصادية الخانقة، فإن سوريا تشعر بالراحة لتطور الأمور على جبهات القتال، وقد باتت اليوم متأكدة من أنها قادرة على حسم أي مواجهة عسكرية مقبلة بدعم من حلفائها.
في اليمن، جاء وقف إطلاق النار استجابة لما يمكن أن نسميه استجداء سعودياً، والجيش اليمني وأنصار الله قادران على فرض شروطهما على العدو بقوة النار.
الغرب الرأسمالي لا مصلحة له في التهدئة، وتوسيع الأزمات ومفاقمتها أمله الوحيد. في المقابل، فإن المعسكر المناهض لـ “الناتو” لا مصلحة له في التهدئة، فالعدو في أضعف حالاته، وبالإمكان الاستمرار في مراكمة الانتصارات الصغيرة هنا وهناك من دون الانزلاق إلى المواجهة الكبرى.